فصل: تفسير الآية رقم (31):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج ابن جرير عن خيثمة قال: لما قتل ابن آدم أخاه شفت الأرض دمه، فلعنت، فلم تشف الأرض دمًا بعد.
وأخرج ابن عساكر عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «بدمشق جبل يقال له قاسيون فيه قتل ابن آدم أخاه».
وأخرج ابن عساكر عن عمرو بن خبير الشعباني قال: كنت مع كعب الأحبار على جبل دير المران، فرأى لجة سائلة في الجبل، فقال: هاهنا قتل ابن آدم أخاه، وهذا أثر دمه جعله الله آية للعالمين.
وأخرج ابن عساكر من وجه آخر عن كعب قال: إن الدم الذي على جبل قاسيون هو دم ابن آدم.
وأخرج ابن عساكر عن وهب قال: إن الأرض نشفت دم ابن آدم المقتول فلعن ابن آدم الأرض، فمن أجل ذلك لا تنشف الأرض دمًا بعد دم هابيل إلى يوم القيامة.
وأخرج نعيم بن حماد في الفتن عن عبد الرحمن بن فضالة قال: لما قتل قابيل هابيل مسح الله عقله، وخلع فؤاده، تائها حتى مات.
قوله تعالى: {فأصبح من الخاسرين}.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل».
وأخرج ابن المنذر عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما قتلت نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم قاتل الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل».
وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن عمرو قال: إن أشقى الناس رجلًا لابن آدم الذي قتل أخاه ما سفك دم في الأرض منذ قتل أخاه إلى يوم القيامة إلا لحق به منه شيء وذلك أنه أول من سن القتل.
وأخرج الطبراني عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أشقى الناس ثلاثة: عاقر ناقة ثمود، وابن آدم الذي قتل أخاه ما سفك على الأرض من دم إلا لحقه منه لأنه أول من سن القتل».
وأخرج ابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمرو قال إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم.
وأخرج ابن أبي الدنيا كتاب من عاش بعد الموت من طريق عبد الله بن دينار عن أبي أيوب اليماني عن رجل من قومه يقال له عبد الله، أنه ونفرًا من قومه ركبوا البحر وإن البحر أظلم عليهم أيامًا، ثم انجلت عنهم تلك الظلمة وهم قرب قرية. قال عبد الله: فخرجت ألتمس الماء وإذا أبواب مغلقة تجأجأ فيها الريح فهتفت فيها فلم يجبني أحد فبينا أنا على ذلك إذ طلع عليَّ فارسان، فسألا عن أمري فأخبرتهما الذي أصابنا في البحر وأني خرجت أطلب الماء، فقالا لي: اسلك في هذه السكة فإنك ستنتهي إلى بركة فيها ماء فاستق منها ولا يهولنك ما ترى فيها. فسألتهما عن تلك البيوت المغلقة التي تجأجئ فيها الريح، فقالا: هذه بيوت أرواح الموتى، فخرجت حتى انتهيت إلى البركة فإذا فيها رجل معلق منكوس على رأسه، يريد أن يتناول الماء بيده فلا يناله، فلما رآني هتف بي وقال: يا عبد الله، اسقني فغرفت بالقدح لأناوله فقبضت يدي فقلت: أخبرني من أنت؟ فقال: أنا ابن آدم أول من سفك دمًا في الأرض. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {فَطَوَّعَتْ} الجمهورُ على {طَوَّعَتْ} بتشديد الواو من غير ألف بمعنى «سَهلت وبعثت» أي: جَعَلْته سهلًا، تقديره: بعثت له نفسه أنَّ قتل أخيه طَوْعًا سهل عليه.
قال الزَّمَخْشَرِي: «وسَّعَتْه ويسَّرَتْه من طاعَ له المرْتَعُ إذ اتَّسع» انتهى.
وقال مجاهد: شجّعْتُه.
وقال قتادة: زيَّنْتُ له نفسه، والتَّضْعيف فيه للتَّعْدِية؛ لأنَّ الأصل: طَاعَ له قَتْلُ أخيه، أي: انْقَادَ من الطَّواعِية، فعُدّي بالتَّضعيف، فصار الفاعلُ مَفْعُولًا كحاله مع الهَمْزَة.
وقرأ الحسن، وزَيْد بن علي وجماعة كثيرة {فَطَاوعتْ}، وأبدى الزَّمَخْشَرِيُّ فيها احتِمَالَيْن:
أحدهما: أن يكُون ممَّا جاء فيه «فَاعَلَ» لغير مُشاركة بين شَيْئيْن، بل بمعنى «فَعَّل» نحو: ضَاعَفْتُه وضَعَّفْته، وناعَمْتُهُ ونَعَّمْتُه، وهذان المثالان من أمثلة سِيبويه.
قال: «فجاءوا به على مثال عاقَبْتُه».
قال: وقد تجيء: «فاعَلْتُ» لا تريدُ بها عمل اثْنَيْن، ولكنَّهم بَنَوْا عليه الفِعْل كما بَنَوْه على «أفْعَلْتُ»، وذكر أمْثِلَة منها: «عَافَاهُ اللَّه»، وقَلَّ مَنْ ذكر أن «فَاعَل» يجيءُ بمعنى «فعّلْتُ».
والاحتمال الثاني: أن تكون على بَابِهَا من المُشَاركة، وهو أنَّ قَتْل أخيه كأنه دَعَا نَفْسَه إلى الإقْدَام عليه فَطَاوعته انتهى.
وإيضاحُ العبارة في ذلك أنْ يُقَال: جعَل القَتْل يدعو إلى نفسه لأجل الحسد الذي لَحِقَ قَابِيل، وجعلت النَّفسُ تَأبى ذلك وتَشْمَئِزُّ منه، فكُلٌّ منهما- أعني القَتْلَ والنَّفْسَ- كأنه يريد من صاحِبِه أن يُطِيعَه إلى أن غَلَبَ القَتْلُ النَّفسَ فطاوعته، و{له} مُتعلِّق بـ {طوَّعت} على القِرَاءتَيْن.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: و{له} لزيادة الرَّبْط، كقولك: حَفِظْتُ لزيْد ماله.
يعني أنَّ الكلام تامٌّ بِنَفْسه.
ولو قيل: فَطَوَّعَتْ نفسُه قَتْل أخيه، كما كان كَذَلك في قولك «حَفِظْتُ مالَ زَيْد» فأتى بهذه «اللاَّم» لقوة رَبْط الكلام.
قال أبو البقاء: وقال قوم: طاوَعَتْ تتعدَّى بغير «لاَم»، وهذا خَطَأٌ؛ لأنَّ التي تتعدى بغير اللاَّم تتعدى لِمَفْعُول واحد، وقد عَدَّاهُ إلى قَتْلِ أخِيه.
وقيل: التَّقْدِير: طاوَعَتْه نفسه قَتْل أخيه، فزاد «اللاَّم» وحذف «عَلَى»، أي: زاد اللاَّم في المفعول به وهو «الهَاء»، وحذف «على» الجارَّة لـ «قَتْل أخِيه».اهـ.

.تفسير الآية رقم (31):

قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما كان التقدير: ثم إنه لم يدر ما يصنع به، إذ كان أول ميت فلم يكن الدفن معروفًا، سبب عنه قولَه: {فبعث الله} أي الذي له كمال القدرة والعظمة والحكمة؛ ولما كان المعنى يحصل بالغراب الباحث فقط قال: {غرابًا يبحث} أي يوجد البحث وهو التفتيش في التراب بتليين ما تراصّ منه وإزاحته من مكانه ليبقى مكانه حوزة خالية.
ولما كان البحث مطلق التفتيش، دل على ما ذكرته بقوله: {في الأرض} ليواري غرابًا آخر مات؛ ولما كان الغراب سبب علم ابن آدم القاتل للدفن، كان كأنه بحث لأجل تعليمه فقال تعالى: {ليريه} أي الغراب يُرى ابن آدم، ويجوز أن يكون الضمير المستتر لله تعالى، والأول أولى لتوقيفه على عجزه وجهله بأن الغراب أعلم منه وأقرب إلى الخير {كيف يواري}.
ولما كانت السوءة واجبة الستر، وكان الميت يصير بعد موته كله سوءة، قال منبهًا على ذلك وعلى أنها السبب في الدفن بالقصد الأول: {سوءة} أي فضيحة {أخيه} أي أخي قابيل وهو هابيل المقتول، وصيغة المفاعلة تفيد أن الجثة تريد أن يكو القاتل وراءها، والقاتل يريد كون الجثة وراءه، فيكونان بحيث لا يرى واحد منهما الآخر، ولعل بعث الغراب إشارة إلى غربة القاتل باستيحاش الناس منه وجعله ما ينفر عنه ويقتله كل من يقدر عليه، ومن ثَمَّ سمى الغراب البين، وتشاءم به من يراه.
ولما كان كأنه قيل: إن هذا لعجب، فما قال؟ قيل: {قال} الكلمة التي تستعمل عند الداهية العظيمة لما نبهه ذلك، متعجبًا متحيرًا متلهفًا عالمًا أن الغراب أعلم منه وأشفق، منكرًا على نفسه {يا ويلتي} أي احضُرْني يا ويل! هذا أوانك أن لا يكون لي نديم غيرك؛ ولما تفجع غاية الفجيعة وتأسف كل الأسف، أنكر على نفسه فقال: {أعجزت} أي مع ما جعل لي من القوة القاطعة {أن أكون} مع ما لي من الجوارح الصالحة لأعظم من ذلك {مثل هذا الغراب} وقوله مسببًا عن ذلك: {فأواري سوءة} أي عورة وفضيحة {أخي} نصِبَ عطفًا على أكون لا على جواب الاستفهام، لأنه إنكاري فمعناه النفي، لأنه لم تكن وقعت منه مواراة لينكر على نفسه ويوبخها بسببها، ولو كانت وقعت لم يصح إنكارها على تقدير عدم العجز الذي أفادته الهمزة {فأصبح} بسبب قتله {من النادمين} أي على ما فعل، لأنه فقد أخاه وأغضب ربه وأباه، ولم يفده ذلك ما كان سبب غيظه، بل زاده بعدًا، وذكر أن آدم عليه السلام لما علم قتله رثاه بشعر، وعن ابن عباس رضي الله عنهما ردُّ ذلك، وأن الأنبياء عليهم السلام كلهم في النهي عن الشعر سواء، وقال صاحب الكشاف: وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر، «ولا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم هذا كفل من دمها بما سن» رواه مسلم وغيره عن عبدالله، وكذا «كل من سن سنة سيئة» ولهذا قال عليه السلام «إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون»، وهذا لأن الآدمي لنقصانه أسرع شيء إلى الاقتداء في النقائص، وهذا ما لم يتب الفاعل، فإذا تاب أو كان غير متعمد للفعل كآدم عليه السلام لم يكن سانًا لذلك فلا شيء عليه ممن عمل بذلك. اهـ.

.قال الفخر:

قيل: لما قتله تركه لا يدري ما يصنع به، ثم خاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى تغير فبعث الله غرابًا، وفيه وجوه:
الأول: بعث الله غرابين فاقتتلا، فقتل أحدهما الآخر، فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة، فتعلم قابيل ذلك من الغراب.
الثاني: قال الأصم: لما قتله وتركه بعث الله غرابًا يحثو التراب على المقتول، فلما رأى القاتل أن الله كيف يكرمه بعد موته ندم وقال: يا ويلتى.
الثالث: قال أبو مسلم: عادة الغراب دفن الأشياء فجاء غراب فدفن شيئًا فتعلم ذلك منه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَبَعَثَ الله غُرَابًا يَبْحَثُ في الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يا ويلتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِى}.
البعث هنا مستعمل في الإلهام بالطيران إلى ذلك المكان، أي فألْهم الله غرابًا ينزل بحيث يراه قابيل.
وكأنّ اختيار الغراب لهذا العمل إمّا لأنّ الدفن حيلة في الغِربان من قبلُ، وإمّا لأنّ الله اختاره لذلك لمناسبة ما يعتري الناظر إلى سواد لونه من الانقباض بما للأسيف الخاسر من انقباض النفس.
ولعلّ هذا هو الأصل في تشاؤم العرب بالغراب، فقالوا: غُراب البين.
والضمير المستتر في {يُريَه} إن كان عائدًا إلى اسم الجلالة فالتعليل المستفاد من اللام وإسناد الإرادة حقيقتان، وإن كان عائدًا إلى الغراب فاللام مستعملة في معنى فاء التفريع، وإسناد الإرادة إلى الغراب مجاز، لأنّه سبب الرؤية فكأنَّه مُرِيءٌ.
و{كيف} يجوز أن تكون مجرّدة عن الاستفهام مرادًا منها الكيفية، أو للاستفهام، والمعنى: ليريه جواب كيف يُواري. اهـ.

.قال الفخر:

{سوأة أَخِيهِ} عورة أخيه، وهو ما لا يجوز أن ينكشف من جسده، والسوأة الفضيحة لقبحها.
وقيل سوأة أخيه، أي جيفة أخيه. اهـ.